العراق.. المنطقة الخضراء والصراع على الدولة
6/1/2021 5:02:37 PM
2856 مشاهدة
اياد العنبر
+
-
في قديم الزمان كانت الانقلابات العسكرية في بلدنا تتم من خلال محاصرة القصر الجمهوري والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون. واليوم انتهت رمزية الإذاعة والتلفزيون بعد أن أصبحت القنوات التلفزيونية المحلية بعدد أحزاب السلطة، والقصر الجمهوري استبدل بالمنطقة الخضراء التي تضم أغلب أفراد الطبقة السياسية وزعامتها فضلا عن مقر الحكومة. فهذه المنطقة أصبحت مقرا لحكم أحزاب وشخصيات المعارضة بعد أن عادت من المنفى، واتخذت قصور الطاغية مقرا لها!
تعود تسمية المنطقة الخضراء في بغداد إلى القوات الأميركية، باعتبارها منطقة محصنة وآمنة، في حين سميت بقية مناطق بغداد بـ"المنطقة الحمراء". ويبدو أن المنطقة الخضراء لم تعد خضراء! بعد صواريخ الكاتيوشا التي تستهدف مقرات السفارات والبعثات الدبلوماسية بين فترة وأخرى، وأصبحت هدفا لحركات الاحتجاج للتضيق على الحكومة. وهذه الأيام أصبحت مكانا للاستعراضات العسكرية من قبل جماعات مسلحة تتحدى الحكومة!
ليلة الأربعاء الماضية، كانت ليلة ليلاء - كما وصفها الإعلامي العراقي عدنان الطائي في مقدمة برنامجه اليومي- وهذه الليلة في لغة العرب (طويلة شديدة السواد) على ما تبقى من الدولة وسيادتها وهيبتها. فأرتال العجلات العسكرية التابعة لفصائل الحشد الشعبي المتمركزة بالمنطقة الخضراء وعلى مداخلها ومداخل العاصمة بغداد تستعرض قوتها على الحكومة اعتراضا على اعتقالها أحد قيادي فصائل الحشد بتهمة الإرهاب.
فيما بقيت الحكومة صامتة حتى انجلى الغبار وخرجت ببيان عديم اللون والطعم والرائحة، وفي اليوم التالي اجتمعت الرئاسات الثلاث لتعيد تكرار الكليشات الجاهزة التي ترفض وتستنكر وكأنما الاضطراب الأمني حدث في بلد آخر وليس في العراق، الذي يحتاج إلى خطاب يؤكد قوة الدولة لا التباكي على أطلال انتهاكات هيبتها وسيادتها.
لم تكن استعراضات الفصائل المسلحة تستهدف عنوان الحكومة، ولا رئيسها السيد مصطفى الكاظمي، وإنما كانت رسالة واضحة وصريحة بأننا فوق الدولة ولا صوت يعلو على سلاحنا. وهنا تحديدا أعود إلى نقطتين مهمتين يستوجب حضورها في قراءة ما يحدث الآن، الأولى: التخادم المصلحي بين الحكومة التي تتخاذل عن القيام بمهامها الأمنية في ردع ومواجهة هذه الاستعراضات التي تتكرر بين فترة وأخرى. والثانية، لعبة معارضة الحكومة من قبل الجماعات التي تملك التمثيل السياسي والسلاح في الوقت ذاته.
منطق التخادم المصلحي غير المعلن بين الفصائل المسلحة وبين الحكومة بات يثير الريبة والشك من كثرة تكراره! فالحادثة الأخيرة، جاءت إنقاذا لحكومة الكاظمي بعد أن أصبحت بمواجهة مباشرة مع متظاهري 25 أيار (مايو)، التي قتل فيها اثنان من المتظاهرين وجرح العشرات بعد صدور الأوامر لقوات (فض الشغب) بإنهاء التظاهرات. ولذلك جاءت تداعيات حادثة اعتقال القيادي في الحشد الشعبي قاسم مصلح، بمثابة طوق النجاة للحكومة بعد أن أصبحت غارقة باتهامات قتل المتظاهرين، وعجزها عن حمايتهم من الاغتيالات والخطف طوال عام من فترة حكمها. لكن الخدمة الحقيقة أتت ممن يسوق نفسه كعدو لهذه الحكومة عندما رفض قرار الاعتقال بطريقة استعراض قوة ونفوذ سلاحه، ليختار الكاظمي لعب دور المتحرز بدماء الشباب المغرر بهم-كما يكرر هذا الوصف- ويظهر بمظهر المغلوب على أمره.
ويبدو أن لعبة التخادم، سواء تم رسم سيناريوهاتها أو هي نتاج تراكمات الفوضى في العراق، قد باتت تستهوي الكاظمي، فهو يريد البقاء بالسلطة ولا يريد مواجهة القوى السياسية ولا مواجهة جماعات السلاح المنفلت، حتى وإن كان ذلك على حساب كرامته الشخصية، بعد أن أصبح وصف الضعيف والمتخاذل لصيقا به! وبات ينتقد بسبب مواقفه هذه من الأصدقاء والحلفاء قبل الأعداء. إذ نشر السيد مقتدى الصدر، الحليف الأبرز للسيد الكاظمي، تغريدة يلمح فيها إلى أن الحكومة (ضعيفة أو هزيلة).
مشكلة الكاظمي أنه يتبع أسلوب المقامر برهانه على تصوير الجماعات المسلحة باعتبارها (تتنمر) على الدولة- كما يصفها-، وعلى أمل جعل الأطراف الدولية والأوساط الشعبية تتعاطف معه. لكن تخاذل الحكومة عن القيام بمهامها الأمنية ومنع التجاوز على مؤسساتها رهان خاسر؛ لأنها تصور الدولة بموقف العجز والضعف وليس الدولة القوية التي ترفض أن تتنافس معها جماعات مسلحة على احتكارها حق العنف واستخدامه. وبالنتيجة لا يمكن للجمهور أو القوى السياسية أو القوى الخارجية أن تراهن على دعم حكومة ضعيفة.
أعود إلى النقطة الثانية، لعبة المشاركة بالسلطة ومغانمها وبنفس الوقت معارضة الحكومة، هي لعبة مراهقي السياسة الذين يرفضون النضوج السياسي والارتقاء إلى مستوى الاحترافية السياسية. وفقا لذلك عندما يريد من أتى بهذه الحكومة الهزيلة أن يتمرد عليها فهو بالنتيجة يتمرد على الدولة وليس الحكومة. الدولة التي يسيطر على مؤسساتها ومواردها الاقتصادية بأسلوب وطريقة عمل المافيات وقوة السلاح. وهذه الدولة الهزيلة التي يريدون الإبقاء عليها ستنهار عاجلا أم أجلا، وهي أوهن من بيت العنكبوت.
لا يمكن أن تبقى الجماعات المسلحة مزدوجة المواقف: تارة تعلن انتمائها إلى مؤسسات الدولة الرسمية وتأتمر بأمر القائد العام للقوات المسلحة، وتارة أخرى تتحين الفرص لإعلان تمردها ورفضها لأوامر الحكومة، وتبرر ذلك بردود الأفعال وتطالب باحترام السياقات القانونية في التعامل معها. ومن يرفع السلاح بوجه الحكومة، يتقصد إهانتها، وتلك أخطر الجرائم في الأعراف القانونية والسياسية. ومن ثم، لا يمكن أن تبقى الجماعات المسلحة ترتكن إلى فتوى السيد السيستاني باعتبارها المانحة لشرعية وجودها، ولا لرمزية منجزها في تحرير المدن من سيطرة تنظيم داعش، وإنما يجب أن تكسب ثقة الجمهور بالعمل على تقوية الدولة- التي تدعي حمايتها من الانهيار- وليس التمرد عليها.
الصراع على الدولة بين الحكومة والجماعات المسلحة التابعة للقوى السياسية الشيعية، يجعل احتمالية الذهاب نحو خيار الصدام المسلح واقعا وليس افتراضا. فتمركز القوة لدى الدولة ومؤسساتها الأمنية لا تقابله أي قوة أخرى، ولكن ضعف من بيده القرار السياسي وتخاذله قد يؤجل فقط توقيت المواجهة مع الجماعات المتمردة، التي مهما تغولت وتجبرت لن تحسم المعركة مع الدولة لصالحها، لأن المواطنين والبيئة الدولية والإقليمية تبقى رافضة لها، وهذا ما لا يدركه من يغلب منطق السلاح على منطق العمل السياسي.