الكاظمي والتعايش المستحيل بين 'هانوي وهونغ كونغ'
5/31/2021 11:09:17 PM
2720 مشاهدة
رستم محمود
+
-
صباح يوم الأربعاء الفائت، وبينما كانت أفواج فصائل الحشد الشعبي "العراقية" تحاصر مكتب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، مصطفى الكاظمي، تهدم الأسوار المنيعة التي تحمي مؤسسات الحكم العليا في المنطقة الخضراء من العاصمة بغداد وتهدد علنا باجتياحها، كان الشخص المستهدف منهمكما بإعداد بيان تعقيبي على الحدث، كان يتطابق في مضامينه مع ما يصدر عن الموظفين البيروقراطيين في منظمة الأمم المتحدة: "ما شهدته المنطقة الخضراء يعد انتهاكا خطيرا للدستور العراقي والقوانين النافذة"!!.
طبيعة فعل الفصائل وما صدر عن قائدها المفترض، هي شيء بالغ التكرار والدورية في الوقائع العراقية، منذ أكثر من عام، مع تولي الكاظمي لرئاسة الوزراء، وحتى الآن. فدائما ثمة سعي خجول ومرتبك من قبل الأجهزة والمؤسسات الرسمية التي تحت إمرة الكاظمي لتطبيق بعض أوجه القانون والسلطة الرسمية بحق الأشخاص والكيانات التي تنتمي للسلطة الحقيقية في البلاد، من مرتكبي أفظع الأفعال، مثلما كان الحال مع القيادي في الحشد الشعبي، قاسم مصلح، الذي على أثر اعتقاله جرت أحداث، الأربعاء، وهو المتهم بصفقات فساد واغتيالات لناشطين وصحافيين وتجار، وحتى سرقة أموال المنتسبين للحشد الشعبي!
ما يحاول رئيس الوزراء العراقي والقائد الأعلى- المفترض- للقوات المسلحة إغفاله عن قصد، كان عناصر وقادة الحشد، ومنهم رئيس أركان الحشد، عبد العزيز المحمداوي، الذي من المفترض أن يكون تحت إمرة الكاظمي، يعلنونه جهارا أمام مكتبه: يمزقون صور الكاظمي، ويرفعون صور قاسم سليماني!
بغض النظر عما يؤمن به الكاظمي في قرارة نفسه، لكن دون شك ثمة رغبة كبيرة من قبله لضبط سلطة وجبروت الفصائل المسلحة، لتكون موازية وتحت إمرة مؤسسات الدولة. ربما ليس لأسباب سياسية أو عقائدية، بل لجنوح طبيعي من قبل الرجل لتحويل سلطته الرسمية الشكلية الوظيفية إلى سلطة فعلية، قد ترسم له ملامح سياسية ما، ذات دور حاضر العراق ومستقبله.
يرى الكاظمي بأن ذلك الأمر يمكن تحقيقه تماشيا مع ثلاثة تحولات سائلة تحيط بالمزاحمة بينه وبين فصائل الحشد الشعبي: يتعلق الأول بنتائج الحوار الإيراني مع القوى العالمية، والتي قد تغير من مستويات وأشكال دعم إيران لتلك الفصائل. والثاني بالخلافات التي قد تنشأ بين إيران وبين قادة تلك الفصائل، الذين تدفعهم طموحاتهم الشخصية للتفكير بتجاوز من اختلقهم، إيران. والثالث يكمن في الخلافات التي قد تنشأ فيما بين الفصائل نفسها، بين تلك التي تسمي نفسها بـ"فصائل العتبات المقدسة" أو الفصائل العراقية، ونظيرتها التي تعبر صراحة عن ولائها لإيران، المسماة بـ"الفصائل الولائية".
أي أن الكاظمي يمني النفس بأن معايشة ما بين سلطاته وأدواته وأجهزته وما ينظرها من السلطات والأدوات والأجهزة التي تملكها وتستعملها جهات السلطة الحقيقية في البلاد ممكنة تماما، وأن سياق التاريخ وتحولاته ستسمح له بـ"انقلاب" ما ضدها في لحظة مناسبة.
استراتيجية الكاظمي هذه كان قد طبقها العديد من "القادة" السياسيين في منطقتنا، الذين حاولوا كل مرة الوصول والبقاء في السلطة الرسمية البيروقراطية الوظيفية في دولة ما، عبر مهادنة ومعايشة سلطة حقيقة في تلك الدولة، ثم انتظار اللحظة المناسبة للانقلاب عليها دون المبالاة بأن تلك السلطة الحقيقية إنما تكتنز كل أشكال العنف والمركزية والهيمنة، لكنها لا تريد الظهور للمتن العام وممارسة وظيفة السلطة الظاهرة، بل توكلها لهؤلاء المكلفين.
كان هؤلاء "القادة" السياسيين يجربون ويقبلون تلك المعايشة، ويعتقدون في قرارة أنفسهم بأن الظروف والتحولات قد تتيح لهم فرصة الانقلاب على تلك السلطة الحقيقة، والحلول مكانها، ولا ضير في الظهور كقادة ثوريين، لكن، وليس فقط لسوء طالع هؤلاء المجربين، فإن جميع تجاربهم انتهت ببحر من الدماء.
تجربة رفيق الحريري في لبنان جربت معايشة الطفرة والتنمية الاقتصادية مع سلاح حزب الله، الموظف/الوزير السوري عبد الله الدردي كان يوعد نفسه بأن الليبرالية الاقتصادية التي يتبعها قد تتعايش مع غابة الأجهزة الأمنية السورية. الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي كان قد آمن لوقت بإمكانية الموازنة بين الثوريين المدنيين اليمنيين والميليشيات الحوثية وبقايا نظام الرئيس صالح. رئيس الوزراء الليبي، محمود جبريل، جرب حظه مع الفصائل الليبية. ومثلها أعداد لا تحصى من التجارب، التي انتهت كلها بمزيج تراجيدي من العنف والحروب الأهلية والشروخ والكيانات الفاشلة.
كان ذلك يحدث لسبب بسيط، يتعلق بغريزة هذه السلطة الحقيقية، حسها الدفين بخطورة وسوء نوايا السلطة الوظيفية الرسمية وما تحمله من تطلعات دفينة، ما تستبطنه عبر طبقات من التقية السياسية والخطابية. تعرف السلطة الحقيقية أكثر من غيرها طبيعة الوشائج غير المعلنة بين السلطة الوظيفية والطبقات المدنية والوسطى والأكثر تعليما والبيروقراطية من المجتمع، وكيف أن تلك الوشائج بين الطرفين يمكن أن تتحول في أية لحظة إلى تحالف انقلابي على النواة الصلبة للسلطة الفعلية، وتاليا، تسعى هذه السلطة الحقيقة لتحطيم تطلعات السلطة الوظيفية من المهد. فوق الأمرين، فإن القائمين على السلطة الحقيقية متخوفون على الدوام من "قوة الشرعية" التي تتمتع بها السلطة الظاهرة، لذا يسعون لتفكيك بنيان تلك الشرعية دون هوادة، عبر تحطيم أسس القانون العام وهيبة الدستور وأدوار المؤسسات الحكومية.
لكن السؤال الكبير الذي بقي ويجب يفتح في هذا السياق، يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية فيما يقدمه "القادة" الوظيفيين من خدمات للسلطة الحقيقية/الشمولية/العنيفة طوال هذه التجارب، ما يقدمونه من تغطية قانونية وسياسية وشرعية لهذه السلطات، التي ما كان لها أن تحقق هذه المستويات من السطوة والفاعلية دون تلك الأنماط من التغطيات.
لأي أحد أن يسأل عن سؤال بديهي: لكن ما الحل!!. ليس من جواب ناجز على ذلك، لكن ترك المسؤولية كاملة وواضحة على عاتق السلطة الفعلية أفضل بكثير من تحمل الجزء الأكبر منها، تره السلطويين الفعليين ليغرقوا في تبعات أعمالهم وتوجهاتهم، عدم تغطيتها وتجميلها. فالسلطة الحقيقة في لبنان مثلا في مأزق كبير جدا في زمن حسان دياب، بشكل لا يقارن بما كانت عليه في زمن رفيق حريري، ومثل لبنان هي أحوال باقي النماذج.